✍️ بقلم: علي بن محمد الحربي
في لحظاتٍ يغيب فيها النور، وتخنق الصدور أنفاسها، يشعر الإنسان أن الدنيا قد أغلقت أبوابها في وجهه، وأن عدالة الأرض أصابها العمى. لا يُوجَد وجعٌ أشدّ من أن يُظلم الإنسان وهو يعلم أنه على حق، ولا وجع أعمق من أن يُتهم وهو بريء، ولا سكين أبطأ من تلك التي يزرعها الظلم في قلبٍ صادق.
حين يُظلم الإنسان، لا يجد حوله من يسمع وجعه، ولا من يقرأ دموعه. الكل يمرّ، والكل منشغل، ويبقى هو وحده في صمتٍ ثقيلٍ يُشبه الليل الطويل. هناك فقط، يبدأ القلب بالحديث إلى نفسه، وتبدأ الروح رحلة البحث عن العزاء، ليس في البشر، بل في عدل الله الذي لا يغيب.
في تلك اللحظات، تجد المظلوم يمدّ يده إلى كتابٍ قديم، أو يفتح صفحة من القرآن، أو يبحث في ذاكرة التاريخ عن نهاية الظالمين. لا يفعل ذلك بدافع الحقد، بل بدافع النجاة، كمن يبحث عن نسمة هواء وسط دخانٍ كثيفٍ من القهر. يريد أن يقول لنفسه: “لقد مرّ بهذا الطريق غيري، وصبر، فنُصر.”
حين يقرأ عن فرعون الذي قال “أنا ربكم الأعلى”، ثم غرق في لحظةٍ واحدة وهو يستغيث، يشعر المظلوم أن العدالة الإلهية ليست بعيدة. وحين يقرأ عن قارون الذي خُسف به وبداره الأرض، يطمئن قلبه أن المال لا يحمي الظالم مهما تجبّر. وحين يقرأ عن أصحاب الأخدود، وعن النار التي أوقدها الطغاة للمؤمنين، يدرك أن النصر لا يُقاس بالنجاة من النار، بل بالبقاء على الحق حتى النهاية.
يقرأ المظلوم تلك القصص لا ليحقد، بل ليشفى. يقرأها ليؤمن أن الكون له ربٌّ لا ينام، وأن دعوة المظلوم تخرج من بين دموعه فتشقّ أبواب السماء، وتصل إلى العرش بلا استئذان. تلك الدعوة التي لا ترد، كما قال النبي ﷺ:
“اتَّقوا دعوة المظلوم، فإنها ليس بينها وبين الله حجاب.”
الظلم ليس فقط في سلب المال أو الحق، بل في الكلمة الجارحة، والنظرة المتعالية، والحكم الظالم، والخذلان حين ينتظر المرء النصرة. كم من إنسانٍ يعيش بيننا ظُلم في عمله، أو في أسرته، أو بين أصدقائه، فصمت خوفًا أو أدبًا أو ضعفًا، لكنه حمل في قلبه جمرة لا تُرى، تتوهّج كلما تذكّر الموقف.
والمظلوم، بطبيعته، لا يبحث عن الانتقام بقدر ما يبحث عن الفهم، يريد أن يفهم لماذا حدث ذلك له، ولماذا أُغلقت الأبواب أمامه، ولماذا لم يتحرك أحد ليردّ له حقه. ثم يجد الجواب حين يقرأ أن الله يُمهل ولا يُهمل، وأنه سبحانه قال:
“ولا تحسبن الله غافلًا عما يعمل الظالمون، إنما يؤخرهم ليومٍ تشخص فيه الأبصار.”
تلك الآية وحدها كافية لأن تردّ للمظلوم أنفاسه، وأن تُسكّن دمه الذي يغلي. فالله لا ينسى، وإن صمتت الأرض، فإن السماء لا تصمت.
حين يُظلم الإنسان، يتغيّر داخله شيء لا يعود كما كان، كأنّ الظلم يصهر قلبه ويعيد تشكيله من جديد. يصبح أكثر وعيًا، وأقرب إلى الله، وأشدّ إحساسًا بمعنى الرحمة. المظلوم يذوق في الظلم دروسًا لا تُدرّس، فيعرف قيمة العدل، ويشعر بمعنى القوة، لا قوة البطش، بل قوة الصبر.
ولذلك، فإن الله حين يحب عبدًا يبتليه، ليطهّره، ويرفعه، ويعلّمه أن القوة الحقيقية ليست في اليد، بل في الصبر، وأن العدل الإلهي لا يأتي متأخرًا، بل يأتي في الوقت الذي يُعيد للحق هيبته وللقلب سكينته.