*كتبة علي محمد الحربي
حين يُظلم الإنسان، يبدأ يرى الدنيا بعيونٍ مختلفة، عيونٍ جربت الخذلان والمرارة، لكنها لا تزال تؤمن بالله. المظلوم حين يرفع يديه إلى السماء، لا يطلب سقوط الظالم، بل يطلب عدل الله، يطلب أن يُريه الله الحق كما هو، وأن يريحه من ظلمة القلب قبل ظلمة الناس.
تتحول لياليه إلى مواسم دعاء، وسجوده إلى ملاذٍ لا يعرفه إلا من ذاق مرارة الظلم. هناك، على سجادةٍ يغسلها الدمع، يعيد ترتيب علاقته بالحياة، ويكتب من صمته كلماتٍ لا تُقال، كأنه يقول: “يا رب، إن تركني الناس فقد علمت أنك لم تتركني.”
الظالم، في المقابل، يعيش غفلةً مغرورة، يرى نفسه فوق الناس، ويحسب أن سلطته أو ماله أو مكانته درعٌ منيع. لكنه لا يدري أن الله يفتح له الأبواب حتى يزداد بطرًا، ثم يأخذه أخذ عزيزٍ مقتدر. فهكذا كانت سنة الله منذ الأزل، أن يُملي للظالم حتى إذا أخذه، لم يُفلتْه.
كم من ظالمٍ نام على وسادته قرير العين، بينما كان المظلوم لا ينام من وجعه، ثم أصبح ذلك الظالم بعد أيامٍ أو شهورٍ أو سنواتٍ خبرًا في صحيفة، أو اسمًا يُلعن على الألسنة، أو درسًا يُروى في المدارس.
لقد رأينا بأعيننا كيف تتبدّل الأحوال، وكيف يسقط من ظنّ أن الأرض بيده، وكيف يُرفع من ظنّ أن لا أحد يسمعه. وهذه هي حكمة الله التي لا يدركها المتكبرون.
يقول الله تعالى:
“وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد.”
إنها ليست آية تخويف فحسب، بل وعدٌ للمظلومين، بأن كل ظلمٍ يُسجَّل، وكل دمعةٍ تُحسب، وكل صرخةٍ مكتومةٍ تُسمع.
وفي التاريخ شواهد لا تُحصى:
فرعون الذي قال "أنا ربكم الأعلى" غرق في البحر، وقارون الذي خرج على قومه في زينته خسف الله به وبداره الأرض، والنمرود الذي تجبّر أهلكه الله ببعوضةٍ صغيرة.
ومن بعدهم كثيرون، كانت لهم سطوة وسلطة، فظنوا أنهم خالدون، وأن الحق لا يعلو بعدهم، فإذا بهم يسقطون واحدًا تلو الآخر، كأوراق الخريف حين يهبّ عليها ريح القدر. لم يبقَ منهم إلا الذكر السيئ، وعبرةٌ تُروى لكل من سار على طريقهم.
أما المظلوم، فإنه حين يقرأ هذه القصص، يشعر أن الله يُخاطبه من خلالها، وكأن التاريخ يقول له: “اثبت، فالعاقبة لك.”
وحين يتأمل في قول الله تعالى:
“وتلك الأيام نداولها بين الناس.”
يعلم أن الأيام لا تثبت لأحد، وأن الحق وإن خفت صوته يومًا، فسيعلو غدًا، وأن الله لا ينسى عبده مهما طال الأمد.
إنه من أجمل أسرار الإيمان، أن يعلم الإنسان أن كل ظلمٍ واقعٍ عليه هو لحظة اختبارٍ بين الصبر واليأس، وأن الصبر هو العلامة التي تفتح أبواب النصر.
يقول أحد الصالحين: "لو علم المظلوم كيف يُدافع الله عنه، لذابت نفسه من شدة حبّه لله."
كم في هذه الكلمة من معنى عميق!
فالله لا يحتاج إلى أن يراك تردّ، يكفي أن يراك تسكت وتتوكل. حين تسكت عن الظالم لأنك تثق بالله، فإن الله يتولّى معركتك بنفسه، ويُريك العجب في النهاية.
كم من قصصٍ سمعناها عن أناسٍ صبروا، فصار صبرهم قصة تُروى بعدهم، وكم من ظالمٍ انتفخ كفقاعةٍ ثم انفقعت بلا أثر.
يا من ظُلمت، لا تحزن، فإنك في رعاية الله.
لا تندم على صبرك، فالصبر ليس ضعفًا، بل سلاحًا يجهله الجاهلون.
واعلم أن ما بين لحظة الظلم ولحظة العدل مسافة يختبر الله فيها القلوب، فمن ثبت فيها، رُفع قدره، ومن جزع، ضاع أجره.
يقول الله في الحديث القدسي:
“وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين.”
فما أعظم هذا الوعد! إنه وعد السماء، الذي لا يُكسر، ولا يُؤخر، ولا يُنسى.